نستطيع أن نسطر في هذا المقال عددا لا ينتهي من الأسئلة المتعلقة بموضوع واحد، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: أسئلة حول تفسير التطور المتزامن.
ونقصد بالتطور المتزامن، تطور الأعضاء التي لا يفيد وجودها في الكائن الحي دون وجود أعضاء أخرى، لتتعاون معا فتعمل مجتمعة على أداء وظيفة حيوية لا بد منها لبقاء الكائن الحي.
وقبل أن نسطر أسئلتنا لا بد من تذكير بأهم ركنين من أركان نظرية التطور: الطفرات والاصطفاء الطبيعي.
باختصار شديد نعلم أن النظرية تقول إن الكائنات الحية تتعرض لطفرات جينية، تكسبها صفات جديدة، فإن كانت أي صفة يحصل عليها الكائن من طفرة جديدة، صفة مفيدة، يصبح للكائنات التي حصلت عليها أفضلية على تلك التي لم يسعفها الحظ بها، ثم يأتي الاصطفاء الطبيعي ليعمل عمله عبر الزمن، فتبقى الكائنات سعيدة الحظ التي حصلت على الطفرة المفيدة، وتورثها لذريتها، وتنقرض تلك التي لم تحصل عليها، ثم تتراكم الطفرات على مر الزمن، لنحصل على التنوع الذي نراه في الكائنات.
وعند قراءة أي مرجع عن التطور، ستجد فيه الكثير من الرسوم (أقول رسوم وليس صورا!)، التي يرسمها دعاة التطور ليقنعوا الناس بالنظرية، وبأن انتقال الكائن من شكل لآخر أمر يمكن حدوثه عن طريق الطفرات والاصطفاء الطبيعي.
وما لا يتحدثون عنه أبداً، هو عدد الطفرات المتتالية اللازمة لاكتساب صفة واحدة جديدة، والزمن اللازم لحصول تلك الطفرات ولعمل الاصطفاء الطبيعي عليها، ولن يخبروك أيضاً أن تطور الأعضاء والأطراف والأجهزة في الكائن الحي، لا تكفي لحدوثه طفرات متوالية متتالية، بل لا بد لحدوثه من طفرات متزامنة أيضاً.
مثال عن التطور المتزامن المزعوم
على سبيل المثال، حتى يتطور جهاز القلب، لا بد من أن تتطور معه الأوردة والشرايين الدموية، لأن الشرايين إذا كانت سعتها أكبر من طاقة القلب على ضخ الدم، فلن يعيش الكائن الحي لأن القلب في هذه الحالة لن يستطيع أن يضخ الدم بقوة كافية عبر تلك الشرايين لتصل إلى الأعضاء، وإن كانت سعة الشرايين أقل من قدرة القلب على الضخ، سيموت الكائن الحي لأن الشرايين لن تتحمل قوة الضخ التي يقوم بها القلب.
أي باختصار، يجب أن يتطور كلٌ من القلب والشرايين معا بتوقيت متزامن وبدقة شديدة حتى يتمكن الكائن من البقاء.

وقد مر معنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب، كلام عن الطفرات المتزامنة، ورأينا إن الزمن اللازم لحصول التغيرات الجينية اللازمة لحصول طفرتين جينيتين متزامنتين تضيفان ميزة جديدة للبكتيريا، حسب بحث نشره العالمان (ريك دورنت ودينا شميدت Rick Durrett and Deena Schmidt)، في مجلة (علم الوراثة Genetics)، هو 216 مليون سنة!!
ومر معنا أيضاً دراسة أخرى أجراها ونشرها العالم (دوغلاس آكس Douglas Axe)، توصل إلى أن الزمن اللازم لحصول ما يزيد على ست طفرات متزامنة، يزيد أضعافاً مضاعفة عن العمر المعروف للكون.
وهنا يمكن أن نسأل: ما هو عدد الطفرات المتزامنة التي يجب أن تحدث في القلب والشرايين لتتطور معاً؟ ذلك لأنه كما شرحنا آنفاً، لو تطور أحدهما دون الآخر فلن يتمكن الكائن من البقاء، فهل يستطيع التطوريون أن يفسروا لنا كيف يمكن أن يحدث هذا العدد الكبير من الطفرات المتزامنة ليتطور القلب والشرايين معاً؟
هذا من جهة التزامن، ومن جهة أخرى قد يقول التطوريون: لا بأس إن تطور كل عضو على حده دون تزامن، بل هذا هو الأصل، لأن الاصطفاء الطبيعي عملية غير موجهة، ولكنها في النهاية ستبقي على الصفات المفيدة لأي عضو، وعند اجتماع الصفات المفيدة تتشكل الأجهزة.
منطق متهافت
إن تهافت هذا المنطق في غاية الوضوح من جهتين: الأولى أن من أبجديات الاصطفاء الطبيعي التي يكررها التطوريون دائماً، أنه لا يبقي على الصفات غير المفيدة، بل تنقرض الكائنات التي لا تحصل عليها، فإذا حصلت طفرة لا تفيد الكائن إلا إذا تزامنت معها طفرة أخرى، فستنقرض الكائنات التي تحصل على تلك الطفرة بواسطة الاصطفاء الطبيعي، ولن تنتظر حتى تحصل الطفرات الأخرى التي تدعمها فتصبح كلتاهما معا تطوراً مفيداً، فيحصل الكائن على ميزة جديدة، فيتطور.
وقد ضربنا مثالاً لذلك في الشرايين والقلب، ودعونا نضرب مثالاً آخر لزيادة الإيضاح:
يقول التطوريون إن استطالة عنق الزرافة حصل بسبب التطور، وأنها كانت قبل أن تطول رقابها ذات رقاب قصيرة شأنها شأن بقية الحيوانات، ثم طرأت عليها طفرات أدت إلى تطورها واستطالة رقابها، لكن الذي لا يذكرونه، هو أن استطالة رقبة الزرافة يجب أن يرافقه ازدياد كبير جداً في قوة ضخ الدم من قلبها إلى دماغها بشكل كبير، حتى يتمكن الدم من الوصول إلى قلبها، ولو حصلت الاستطالة دون زيادة ضخ الدم، لما تمكنت الزرافات من البقاء، ولو ازدادت قوة ضخ الدم من قلبها دون استطالة رقبتها لانفجرت الأوعية الدموية التي تغذي دماغها من شدة الضغط.
وهنا يقع التطوريون في معضلة مركبة معقدة لا يستطيعون تفسيرها، وهي تشمل كل عضو وكل جهاز في كل كائن حي، ونستطيع أن نسوق لهم عدداً لا ينتهي من الأسئلة التي يعجز التطور عن الإجابة عليها أو تفسيرها، وهذه أمثلة بسيطة عن بعضها، والسؤال هو: قد ثبت أن التطور المتزامن لأي جهازين أمر مستحيل علميا ورياضياً واحتمالياً، فلا بد أن أحدهما تطور قبل الآخر (إن كانت نظريتكم صحيحة)، وهاكم مجموعة متنوعة من ثنائيات من الأجهزة والأعضاء، والسؤال هو:
أي من تلك الثنائيات تطورأولاً:
- حجم الدماغ أم حجم الجمجمة التي تحتويه؟
- عضلة القلب أم الأوردة والشرايين المرتبطة بها أم الرئتان اللتان تحصلان على الأوكسيجين، فتنقلانه للدم، ليضخه القلب حول الجسم؟
- العصب البصري، أم الثقب الموجود في أسفل الجمجمة والذي قطره يناسب بشكل مدهش قطر العصب البصري؟
- شبكية العين أم عدسة العين مع قدرتها على التمدد والانضغاط اللازمين لوصول الضوء إلى الشبكية تماماً، لا قبلها ولا بعدها.
- عظام الأيدي والأرجل، أم الغضاريف الواصلة بينها لتشكيل المفاصل؟
- الحويصلات أو الأكياس الرئوية، والتي يبلغ عددها في رئتي البشر خمسمائة مليون حويصل، أم الأوعية الشعرية المتصلة بها والتي تأخذ منها أوكسيجين الهواء وتطرح فيها ثاني أوكسيد الكربون؟
- البنكرياس أم جهاز الهضم (إن لم يتطور البنكرياس مع جهاز الهضم سيموت الإنسان بمرض السكر)
- العضلات التي تحرك أجسام الكائنات، أم الأوتار التي تربطها بالعظام؟
- العضلات التي تحرك العظام، أم العظام التي يجب أن تكون أبعادها مطابقة تماماً وبدقة متناهية لأبعاد العضلات التي تحركها؟
- الأعصاب التي تعطي الأوامر للعضلات الحركة، أم العضلات نفسها؟
- الزواحف كما يزعمون تطورت من الأسماك، فما الذي تطور أولا: الزعانف إلى أطراف، أم الخياشيم إلى رئتين؟ أم الأعصاب اللازمة للتحكم بالأطراف والرئتين؟
- الطيور كما يزعمون تطورت من الديناصورات، فما الذي تطور أولا: الأجنحة أم نظام التنفس؟
- البنكرياس أم جهاز الهضم (إن لم يتطور البنكرياس مع جهاز الهضم سيموت الإنسان بمرض السكر).
مع يقيننا بأن نظرية التطور غير قادرة على الجواب عن أي من الأسئلة السابقة، غير أننا سنفرض جدلاً أنهم أجابوا على أحدها، فسيكون السؤال التالي: لماذا حافظ الاصطفاء الطبيعي على العضو الذي تطور أولا من الثنائيات المذكورة رغم أنه غير ذي فائدة دون العضو الآخر؟ أليس من أهم أبجديات التطور أن الاصطفاء الطبيعي يبقي على الطفرات المفيدة ويقضي على الطفرات غير المفيدة؟
الكاتب: فداء ياسر الجندي



