نظرية التطور ومعضلة اللغة والأخلاق والدين

من أكبر المعضلات التي تواجه نظرية التطور لدارون، حقيقة أن الإنسان كثيرة بميزات كثيرة لا يشاركه فيها أي كائن حي آخر، من أهم تلك الميزات: اللغة والدين والأخلاق، فهل يمكن لنظرية التطور، التي تقوم بشكل أساسي على الطفرات المتراكمة والاصطفاء الطبيعي، أن تفسر تمتع البشر بهذه الميزات؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الأسطر التالية

نظرية دارون ومعضلة اللغة

نظرية التطور واللغة

يقول (نعوم تشومسكي Noam Chomsky)، وهو أهم وأشهر علماء اللغويات في العصر الحديث، وأكثرهم تميزا وتأثيرا في مجال اللغويات، وواحد من أهم علماء اللغويات على مدى التاريخ: “إن اللغة عند البشر هي ظاهرة فريدة، لا يوجد أي شبيه لها في عالم الأحياء، ولا يوجد أي سبب يجعلنا نعتقد أنه من الممكن سد الهوة الساحقة التي تشكلها اللغة بين الإنسان وغيره من الأحياء”.

نعوم تشومسكي، أهم وشهر علماء اللغويات في العصر الحديث
نعوم تشومسكي، أهم وأشهر علماء اللغويات في العصر الحديث

نعم، هي هوة ساحقة كما يقول نعوم تشومسكي، وفجوة هائلة يعجز التطوريون عن تفسيرها بآليات التطور، فالأمر ليس مجرد وجود الآليات الفيزيائية للكلام، وإن كانت هذه وحدها تكفي لدحض نظرية التطور، ولكن لأن اللغة تتطلب عمليات منطقية وعقلية ومعلوماتية تعجز عنها جميع الكائنات الأخرى، وقد ذكرنا في الفصل السابق أن هناك تفاوتا كبيراً بين حجم الدماغ في الإنسان وحجمه في أقرب أسلافه المزعومين، يصل إلى ثلاثة أضعاف، وأن الزيادة المادية لهذا الحجم في المسافة الفاصلة بين الإنسان وأقرب أسلافه بآليات التطور أمر مستحيل علمياً، فما بالنا بظهور قدرة الإنسان على اللغة؟ 

والسؤال الأهم: كيف تفسر آليات التطور الدارويني النشوء المفاجئ للقدرات اللغوية عند البشر؟

ونقول إنه مفاجئ، لأن هناك نقلة شاسعة بين أسلاف الإنسان المزعومة، ونعني القردة العليا، التي لا تتمتع بأي قدرة لغوية، وبين البشر الذين يملكون قدرة لغوية خارقة، ولا نعني بها فقط قدرة البشر على إخراج ما يشاؤون من حروف وأصوات، بل قدرة المخ البشري على اكتساب أي لغة مهما كانت، فلو وضعنا مولودا جديداً بين أي معشر من البشر، فإنه سيكتسب لغتهم ويتكلم بها خلال بضع سنوات، وهذا يعني أن دماغة وأجهزته الصوتية مبرمجة مسبقاً على تعلم أي لغة وفهمها والتعبير بها بمجرد أن يعيش بين أفرادها.
ونعيد السؤال مرة أخرى بمزيد من التفصيل:
كيف تفسر نظرية دارون نشوء اللغة عند البشر؟ ما هو عدد الطفرات اللازمة لتحويل الأجهزة الصوتية (الحلق واللسان والأسنان والشفاه والحبال الصوتية)، من جهاز لا يستطيع أن ينطق أي شيء إلا الزقح، إلى جهاز قادر على النطق بعشرات الحروف والأصوات، وما لا يحصى من الجمل والكلمات، وعلى أن يتكلم أي لغة يتعلمها؟ ومن دماغ لا يفقه شيئاً، إلى دماغ مبرمج على أن يستوعب لغة أي قوم يوضع بينهم في طفولته، ويتقنها في سنوات معدودة ويستطيع أن يتكلم بها؟ 

نظرية دارون وعجزها عن تفسير الأخلاق

ليست اللغة هي الميزة غير المادية الوحيدة التي يعجز التطوريون تفسيرها بآليات التطور، فهناك المزيد والكثير، ومن ذلك بعض السلوكيات الأخلاقية عند الإنسان، وخاصة تلك التي تتعلق باللطف والتضحية والإيثار، فقد بذل التطوريون جهوداً كبيرة في محاولاتهم لرد تلك السلوكيات إلى أسباب تطورية، ولكن جهودهم كلها ذهبت عبثاً، لأن المنطق الذي يقوم عليه الاصطفاء الطبيعي، وهو من أهم أركان نظرية التطور، أنه (إن سلمنا جدلاً بأنه يحصل)، يصطفي من الصفات الجديدة التي يكتسبها الكائن الحي بواسطة الطفرات، تلك الصفات التي تساعد الكائن على البقاء، لذلك فإن من الأسئلة الكبيرة التي تعجز نظرية التطور عن إجابتها: كيف تفسر نظرية التطور تمتع الإنسان بالصفات غير الأنانية والمحبة، والتي  ليس لها أي فائدة تطورية، مثل الإيثار واللطف والاهتمام بالغير التعرض للمخاطر والتضحية بالنفس في سبيل الآخرين وغيرها من أمثال هذه السلوكيات؟  

إن من المسلم به في عالم الكائنات الحية كلها ما عدا الإنسان، أن كل ما تفعله في حياتها وما تمليه عليها صفاتها السلوكية، هدفه المحافظة على بقائها، ويكون ذلك عبر محورين اثنين: السعي للحصول على الغذاء ، والتكاثر، وجميع السلوكيات الأخرى تكون بتوجيه هذين الأمرين، ولتحقيقهما، مثلاً عندما تبني الطيور أعشاشها يكون بغرض التكاثر، وعندما تهاجر القطعان من مكان لآخر يكون بغرض البحث عن الغذاء، وهلم جرا.

فإذا كان الإنسان نااتجاً من نواتج آليات التطور الداروني، فلماذا يحافظ الاصطفاء الطبيعي على صفات وسلوكيات معاكسة لمنطق وعمل أهم آلية من آليات التطور، وهي الاصطفاء الطبيعي، الذي يقول التطوريون إنه يصطفي الصفات التي تفيد الكائن وتساعد على بقائه، في حين أن هذه السلوكيات قد تضره وتؤثر سلبياً على بقائه.

الدين: معضلةأخرى تعجز نظرية التطور عن تفسيرها

وهذه معضلة أخرى تعجز نظرية التطور عن تفسيرها، فالعجز الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة في تفسير بعض السلوكيات والأخلاق، هو نفسه ينطبق على تفسير أصل الدين، والذي يعتبر أيضاً تحدياً كبيرا لعلماء التطور، وأحد التفسيرات الشائعة هو أن أي مجموعة بشرية تحتاج إلى عقيدة مشتركة بين أفرادها، لأن  المعتقدات الدينية المشتركة تساعد على تعزيز تماسك المجموعة ومن ثم على بقائها، ولكن هذا التفسير لا يحل معضلة التطوريين، لأن الدين لا يتعلق فقط بمجرد التعاون والتماسك الجماعي، كيف يمكن تفسير الأصل التطوري للإخلاص الديني الكامل للإله؟ أي جينات تلك هي التي تدفع الشباب إلى أماكن العبادة والصلاة، حيث لا أهداف مادية لهم من تكاثر وطعام، وحيث يتقربون من ربهم بإخلاص دون انتظار استحسان من غيرهم من الناس؟

وماذا عن المقاتل الذي يستشهد في سبيل عقيدته وهو راض بذلك مقبل عليه؟ كيف يمكن تفسير هذا السلوك وهو معاكس تماماً لآليات التطور؟ أي جينات تلك التي تدفعه لذلك؟ فلا يسعنا إلا أن نؤكد من جديد أن من أهم الأصول التي تقوم عليها نظرية التطور هو أن الاصطفاء الطبيعي يبقي على الميزات الجينية التي تساعد الكائن على البقاء!
ونختم بالسؤال للتطوريين: هل تقدم نظرية التطور أي تفسير تطوري مقنع للمعتقدات والسلوكيات الدينية عند البشر؟ مثل القيام لطقوس العبادة، وإخلاص التوجه إلى المعبود، والإقبال على الاستشهاد في سبيل العقيدة. 


الكاتب: فداء ياسر الجندي