
من ذلك مثلاً مقال علمي وقع بيدي حول التصميم المذهل للطيور، ولا سيما الجارحة منها، وكان المقال يتحدث عن قدرة الصقر على الطيران والمناورة، ولكنني صدمت عندما قال الكاتب: “وهذه الأجنحة التي تطورت عبر ملايين السنين، منذ عصر الزواحف، ليتمكن الصقر بواسطتها من التحليق في الهواء بسلاسة وسرعة واندفاع، مع قدرة كبيرة على المناورة”، والذي زاد في استيائي أن من ترجم المقال إلى اللغة العربية احتفظ بتلك الجملة ولم يكلف نفسه أن يحذفها، أو أن يشير إلى أنه أثبتها لأمانة الترجمة رغم عدم صحتها.
سبحان الله.. هل يعقل أن يصدر هذا القول عن كاتب علمي؟
لا أقول ذلك فقط بسبب البراهين العلمية الساطعة التي أثبتت تهافت هذه النطرية تماماً، والتي يمكن أن يجدها قراؤنا الكرام في الكثير من الكتب والمواقع المعنية ولكن لأنني لوصدقت لحظة واحدة هذه النظرية فإني سأكون خائنا لعقلي ولمنطقي ولما تعلمته طول عمري ولمهنتي كمهندس، حتى لو لم أطلع على تلك البراهين. وهذه هي الأسباب.
مراحل الإنجاز الهندسي
إن إنجاز أي عمل هندسي، كبناء من الخرسانة المسلحة مثلاً، يمر بمراحل متعددة، تبدأ بالفكرة، ثم التصميم الأولي للخطوط العريضة، ثم التصميم التفصيلي، وفيه يتم تحديد الأبعاد والتفاصيل بدقة، وحسابات التسليح والخرسانة وكل جزء في المشروع، فيتحدد فيه عدد قضبان التسليح اللازمة لكل عنصر في المنشأة، ووطول وقطر كل منها، ثم يتم إحالة التصميم إلى التنفيذ، ليقوم مهندسو التنفيذ بوضع الرسومات أو المخططات التنفيذية، وهي أدق وأكثر تفصيلاً من رسومات التصميم، لأنها بناء عليها سيتم التنفيذ،
ودقتها تكون عالية جداً بحيث يتم رسم موضع كل قضيب من قضبان التسليح حتى يقوم مهندس التنفيذ بعمله بدقة، وأثناء التنفيذ يتم أيضاً تطبيق نظام “التحقق من الجودة” للتأكد من أن التنفيذ مطابق للتصميم، وأنه تم بأفضل وأدق السبل والوسائل، بحد أدنى من الأخطاء، وبعد انتهاء التنفيذ، يتم تحضير رسومات جديدة، هي رسومات ما بعد التنفيذ، لأنه مهما بلغت دقة لتنفيذ فيبقى هناك مجال للخطأ البشري، ولا بد من وجود رسوم مطابقة لما تم تنفيذه من أجل الرجوع إليها في حال الصيانة في المستقبل، والصيانة المستمرة أمر لا بد منه.
كلامنا هذا كان عن بناء أصم، فإذا كان التصميم والتنفيذ لآلة متحركة، كطائرة مثلاً، فإن الأمر يكون أكثر تعقيداً، لأن تركيب الأجزاء المتحركة ليس كصب الخرسانة على الحديد، ولا تخرج طائرة من مصنع إلا بعد وجود مئات الآلالف من الرسوم التنصميمية والتنفيذية، وعشرات الآلاف الاختبارات والفحوص التي تغطي كا قطعة وكل سلك في الطائرة، ناهيك عن اختبارات الطيران، ثم تخرج الطائرة من المصنع مزودة بآلاف مؤلفة من الصفحات هي دليل التشغيل والصيانة، ولو مر أحدنا على قمرة القيادة قبل الإقلاع، لوجد طاقم قيادة الطائرة وبيده قائمة من مئات البنود التي لا بد له أن يراجعها وأن يتأكد من اختبارها قبل الإقلاع ويوقِّع على ذلك، لأن إهمال أي منها قد يؤدي إلى كارثة، وتحتاج الطائرة لإقلاعها وهبوطها إلى مطارات وأبراج مراقبة وكادر أرضي داعم ونظام اتصال متطور، ومع كل هذه الأمور لا يخلو الأمر من حوادث وكوارث، ذلك لأنه لا يجادل أحد في وجود نسبة لا يمكن تجاوزها من الخطأ البشري.
هندسة الطيران عند الصقور
لا يستطيع عالم أن يجادل في أن تصميم الصقر ككائن مؤهل للطيران لا يمكن مقارنة دقته وروعته وبراعته وكل ما يتعلق به، بأي تصميم لأي آلة طائرة اخترعها الإنسان، فصنع الإنسان متخلف جداً عن روعة الصقر، (وأي طير آخر)، ومجرد المقارنة فيها إجحاف للكائن الحي، فكل شيء في الصقر من أصغر شعرة في ريشة جناحه، إلى أكبر عظمة في جسمه، مهيأ لمنحه القدرة على الطيران والمناورة والإقلاع والهبوط تصل إلى حد يفوق الخيال، ولو أراد العلماء أن يشرحوا ما يملكه الصقر (أو أي طائر حي) من أجهزة وميزات وخصائص تمكنه من الطيران لاحتاج ما يعرفونه منها (وهناك الكثير مما لم يكتشفوه حتى الآن) إلى مجلدات ورسومات تفوق حجما وتفصيلا وكمية كل ما أنتجه مهندسو الطيران من وثائق وتصاميم ورسوم حتى الآن.
والطيور أعزائي القراء لا تحتاج مطارات، ولا صيانة، ولا تحققا من الجودة، ولا غير ذلك مما يتخذه البشر لضمان أمن طائراتهم، فلم نسمع بصقر يمكث في عشه صباحا لساعات يراجع المئات من البنود التي تضمن سلامة طيرانه، ولا نعرف صقراً يحتاج للإقلاع والهبوط إلى مطارات ومدرجات وأبراج مراقبه، فلديه نظام اتصال وطيران عجيب، وإن هي إلا ضربه بجناحه وإذا به يبدأ التحليق، ولا يحتاج إلى مساحة لهبوطه مهما بلغت سرعة انقضاضه إلى أكثر من موطئ قدميه، ولا يلزمه صيانة ولا قطع تبديل، ورغم كل ذلك، لم نسمع بأن صقراً ضل طريقه أو أخطأ هدفه أو هبط هبوطاً اضطرارياً أو أصاب جهاز اتصاله عطل فهوى على الأرض وتحطم!!
عود على بدء
ونسأل الآن: أين الرسوم التصميمية للصقر؟ أين رسومه التنفيذية؟ أين دليل الصيانة الخاص به؟ أين جهاز الاتصال؟ أين وأين وأين؟؟؟
أنا لا أستطيع كمهندس، أعلم مراحل تصنيع الأشياء، ومايتطلبه خروج الطائرات جاهزة من مصانعها، أن أقتنع ولوبنسبة واحد في المليار، أن هذا الصقر قد تطور عبر ملايين السنين من حيوان زاحف، إلى طير كامل، دون تصميم، ودون رسوم تنفيذية، ودون دليل استخدام، ليكون بهذا الكمال الذي ألمحنا إليه، إلا إذا قدم لي أصحاب هذا الادعاء تفاصيل خط الإنتاج، مع الوثائق الكاملة من حسابات ورسومات ودليل استخدام!!
ولا أستطيع أن أفهم كيف يُعرض العلماء عن هذه الحقائق، وغيرها، ثم يلهثون خلف نصف فك مهترئ لقرد ميت يعثرون عليه في غابات أفريقة، ليبنوا عليه أطناناً من الأوهام في محاولة لإثبات تلك النظرية التي لو أنصف العلماء لجعلوها من مخلفات الماضي.
الحمد لله رب العالمين
وليس لنا هنا أخيراً إلا أن نحمد الله الذي هدانا إلى الحقيقة الساطعة، التي يصل إليها العلم والعقل والمنطق، وهي أن هذا الصقر (شأنه شأن مثل كل مخلوقات الكون) هو “صنع الله الذي أتقن كل شيء”، الله الذي “إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون”، “سبحانه وتعالى عما يصفون”



