
من عجائب الكائنات الحية، وما أكثر عجائبها، عملية تخلُّق الفراشات من اليرقات، وهي عملية عجيبة غريبة عجز علماء الأحياء التطوريّون، الذين يستبعدون أي تفكير خارج نطاق الدارونية، عجزوا عن تفسيرها بآليات التطور، رغم محاوَلاتهم المتعددة.
وكان آخر تلك المحاولات الفاشلة، ورقة بحثية نشرها أربعة علماء من جامعة برلين الحرة وجامعة برينستون، عنوان الورقة: “النمو السريع وتطور التحول الكامل في الحشرات“، ورغم أن الباحثين اعترفوا في ورقتهم بأن تطور دورة حياة الفراشات غير مفهوم، إلا أنهم حاولوا تبرير تطورها بطريقة بعيدة كل البعد عن العلم كما سنرى، وما ذلك إلا لأنهم يستبعدون تماماً أي تبرير خارج صندوق الدارونية.
دورة حياة الفراشات
ولكن دعونا أولا نلقي نظرة على دورة حياة الفراشات، والتي هي بحق أعجوبة من أعاجيب خلق الله.
تضع الفراشة بيوضها عادة على أوراق الأشجار أو على الأغصان، وحجم بيضة الفراشة غاية في الصغر، لا يكاد يرى بالعين المجردة، وعندما تفقس لا يخرج منها فراشة، بل يخرج منها يرقة، وهي مخلوق صغير جداً، يشبه دودة، ولكن بأرجل، وفور خروجها تبدأ بأداء مهمتها الأولى، وهي الأكل باستمرار وبلا توقف، فتشرع بالتهام أوراق الأشجار بشراهة، وتنمو بسرعة مدهشة، إذ قد وزنهاجمها بعد أسبوعين ثلاثة آلاف ضعف من وزنها يوم خرجت من البيضة، حتى إذا بلغت مرحلة محددة من النمو، تبدأ مهمتها الثانية، فتراها قد ألصقت نفسها بورقة أو بغصن، ثم راحت تخلع جلدها من أعلى رأسها إلى أسفلها، ثم ترمي بجلدها، وإذا بنا أمام ما يشبه كيساً مغلقاً يسمى شرنقة، يبقى معلّقاً في مكانه، بينما تجري في داخله المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي أمر مهول عجيب غريب، ففي داخل هذا الكيس يحدث تحول مذهل، وهو أن أعضاء وخلايا الشرنقة، تتحلل شيئاً فشيئاً، وكأنها تهضم نفسها، لتصبح على شكل سائل معبأ بالكيس المغلق الناتج بعد تخلص اليرقة من جلدها، ومن هذا السائل تتخلق أعضاء الفراشة، وبعد مدة تتراوح من بضعة أيام إلى بضعة أسابيع، حسب نوع الفراشة، سائل، يتمزق الكيس، لتخرج منه فراشة كاملة، بأرجل وقرون استشعار وأجنحة ملونة مزخرفة غاية الجمال، وما هي إلا لحظات بعد انشقاق الكيس وخروج الفراشة، حتى تبدأ الفراشة بالطيران، لتزين بأجنحتها الغابات والبساتين.
ما الذي يخبرنا به العلم عما حدث؟
لعلم يخبرنا أن مراحل تخلق أي كائن حي منذ حدوث التكاثر إلى اكتمال التخلق، تكون حسب برنامج دقيق محكم منضبط مدهش، مكتوب في الحمض النووي لوسيلة التكاثر، سواء كان بيضة أو نطفة، وفي حالة الفراشة هذه لدينا عدة برامج للإنتاج تعمل بشكل متسلسل متلاحق منتظم، وفق المراحل التي ذكرناها آنفاً، للوصول إلى المنتج النهائي، وهو فراشة مكتملة بأجنحتها وأرجلها وكل أعضائها.
البرنامج الأول: إنتاج اليرقة: يُنَفَّذُ هذا البرنامج داخل البيضة، يتحول خلاله السائل الموجود في البيضة إلى مخلوق كامل قادر برأي وأرجل قادر على الحركة والأكل والنمو.

اليرقة تعلق نفسها بعد اكتمال نموها
البرنامج الثاني: نمو اليرقة ثم تحولها إلى شرنقة، فاليرقة التي نتجت من البيضة مبرمجة ذاتياً على أن تأكل بلا توقف حتى تنمو إلى مرحلة معينة مكتوبة في برنامج حمضه ا لنووي، ثم تلصق نفسها بغصن أو ورقة، وتخلع جلدها، وتتحول إلى شرنقة.

اليرقة تخلع جلدها لتظهر الشرنقة
البرنامج الثالث: تخلق الفراشة: وهو البرنامج الأعجب والأكثر إدهاشاً، يقوم بتحويل جسم اليرقة إلى سائل، ثم من هذا السائل يبدأ تخلق أعضاء الفراشة، لتخرج مكتملة الأعضاء، تنشر أجنحتها وتنتظر قليلاً حتى يجري الدم فيها، ثم تطير بين الأزهار والأشجار.

خروج الفراشة مكتملة النمو من الشرنقة
وهذه المرحلة الأخيرة ما زالت تثير حيرة العلماء ودهشتهم، ويشــبِّـه أحدهم أعجوبة تحول اليرقة إلى فراشة لتقريبها إلى الأذهان، فيقول: إن مَــثَلَ ما يحدث لليرقة داخل الشرنقة، كَـمَـثَـلِ سيارة قديمة (موديل 1920)، أدخلناها إلى مصنع فخرجت منه بعد تفكيكها وإعادة تصنيعها، دون الاستعانة بأي مواد أو أدوات سوى ما تتركب منه السيارة نفسها، خرجت وقد تحولت إلى طائرة هليوكوبتر، مزودة بأحدث التقنيات والإلكترونيات والمعدات، بل يؤكد بعض العلماء أن هذا تشبيه للتقريب، وأن ما يحدث في تحول اليرقة إلى فراشة، لا يمكن مقارنته من حيث التعقيد والدقة والضبط والإحكام بتحول السيارة القديمة إلى حوامة.
محاولات دعاة نظرية التطور
وقد حاول دعاة التطور عبثاً أن يفسروا مراحل تخلق الفراشات بآليات التطور، ففشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً، وبيان ذلك فيما توصل إليه علم الجينات الحديث، فنحن نعلم اليوم أن وسيلة التكاثر لدى أي كائن، سواء كانت بيضة أو نطفة، تحتوي في مكوناتها على حمض نووي،وهذا الحمض ليس سوى حزمة من البرمجيات التي تحتوي جميع صفات الكائن، وتحتوي أيضاً التعليمات اللازمة لتحويل الخلايا التناسلية، أي البيوض أو النطاف، إلى كائن حي متكامل، ولكننا في حالة الفراشة لدينا سلسلة من البرامج المتعاقبة كما رأينا، تعمل واحداً بعد الآخر، وكلها كانت موجودة في الحمض النووي للبيضة، ولم يجد العلم أي تفسير لكونها تعمل بشكل متعاقب واحداً بعد الآخر، ولا يستطيع التطوريون أن يقولوا لنا كيف (تطورت) هذه البرمجيات، وكيف كانت الفراشة تتكاثر قبل تطورها، وما هي الطفرات التي حصلت على الحمض النووي للفراشة حتى أصبح يحتوي هذه البرمجيات المحكمة المنظمة المرتبة الدقيقة، التي لا تصل إلى روعتها وإحكامها أشد البرمجيات البشرية تعقيداً.
ونعود إلى الورقة البحثية التي ذكرناها في مطلع هذه المقالة، والتي حاولت تفسير مراحل تخلق الفراشات بواسطة نظرية التطور، فكان أكثر ما توصلت إليه هو (فكرة)، وهي أن تخلق الفراشة وأمثالها من الحشرات التي تمر بمراحل متشابهة، يجعل نموها أسرع بشكل كبير من نمو الحشرات التي لا تمر بمرحلة الشرنقة، فهذه الأخيرة تخرج من بيوضها فراخاً صغيرة تستغرق وقتاً طويلا حتى يكتمل نموها، أما الحشرات التي تمر بمرحلة الشرنقة، فتخرج فوراً من شرنقتها مكتملة النمو، أي إن الزمن اللازم لاكتمال نمو الحشرة اعتباراً من فقس بيوضها في الحشرات التي تمر بمرحلة الشرنقة، أقل كثيراً من الزمن اللازم للحشرات التي لا تمر بتلك المرحلة، لأن ما يحدث داخل الشرنقة هو تحول كامل من يرقة إلى حشرة، وهذا النمو السريع يتيح لتلك الحشرات فرصاً أكبر في البقاء والمنافسة في ظروف البيئة المحيطة، لأنها عندما تخرج مكتملة النمو تكون أقدر على المنافسة في بيئتها، وأقدر على النجاة من المفترسات، ما يتيح برأيهم فهماً أفضل للتنوع الشديد في أنواع الحشرات التي تتكاثر بهذه الطريقة.
لا تتطرق الورقة العلمية إطلاقاً إلى أي شيء يتعلق بالجينات، وإلى أي تفسير علمي إلى كيفية تطور المعلومات والبرمجيات الموجودة في الحمض النووي لبيضة الفراشة، بحيث تقول لليرقة بعد أن تخرج من البيضة: هيا يا عزيزتي، التهمي ورق الاشجار بلا توقف حتى تكبري، ثم تقول لها عندما تبلغ حجما معينا مدروساً: التصقي بورقة أو غصن ثم تخلصي من جلدك لتتحولي إلى شرنقة، ثم تقول لليرقة في داخل الشرنقة: عليك الآن أن تتفكك خلاياك، وتذوب لتتحول إلى سائل لزج، ثم أخيرا تقول للسائل الناتج: جاء دورك الآن ليتخلّق منك فراشة بالغة كاملة النمو، مكتملة الأعضاء، بأرجلها وخرطومها وأعضائها الحيوية كلها، وبأجنحتها الرائعة المزخرفة، لتبدأ حياتها بمجرد خروجها من الشرنقة، وتطير بين الأشجار، وتملأ البساتين والحدائق بجمالها، ثم لتضع بعد فترة بيوضها، وتتكرر دورة الحياة.
ما الذي تفسره نظريو التطور إذن؟
ما الذي نفهمه من نتائج هذه الورقة العلمية إذن؟ نفهم أن الذين أعدوها لا يعرفون كيف عمل التطور الداروني لينشئ تلك الآلية، ولا يعرفون لماذا عمل ذلك، ولا يعرفون كيف كان تكاثر الفراشات في الأجيال السابقة، ولا يعرفون كيف امتلكت جينات الفراشات هذه البرمجيات المعقدة المتسلسلة المتلاحقة، ولا يعرفون كيف تقوم الجينات بتفعيل كل برنامج في الوقت المناسب، كل الذي توصلوا له هو (فكرة)، تقول:بما أن تخلق الفراشة بطريقة التحول الكامل داخل الشرنقة، تزيد من قدرتها على المنافسة، ومن شروط بقائها، فهي إذن ناتجة عن التطور الداروني! ثم يسمون عملهم هذا ورقة علمية، ونتائجها علماً.
إن الأفكار يا سادة ليست علماً، الأفكار هي وسائل مساعدة تؤدي إلى العلم، والفكرة التي لا تتمكن من الحصول على تفسير علمي لها تبقى فكرة، ثم تموت قبل أن تطير من شرنقتها!
الكاتب: فداء ياسر الجندي



