الضوابط الكونية في مواجهة المادية العلمية

كانت عشرينات القرن الماضي نقطة تحول هائلة في علوم الفلك، فحتى تلك الحقبة، كان علماء الفلك يعتقدون أن الكون كله هو مجرة درب التبانة، وأن ما  يشاهدونه أحياناً من أطياف بعيدة وراء النجوم هو مجرد سُدُم (جمع سديم) من غبار كوني متكثف

ولكن في عام 1923 وجَّه العالم الفلكي الأمريكي  “هابل” تلسكوبه إلى أحد هذه السـُدُم، وما لبث أن اكتشف أن ما يشاهده هو مجرة ضخمة هائلة أكبر من مجرتنا، سميت لاحقا (مجرة المرأة المسلسلة)، وتوالت اكتشافات هابل بوتيرة سريعة، إلى أن أثبت مع نهاية عام 1929 أن مجرتنا هي واحدة من ملايين المجرات السابحة في فضاء عالمنا الفسيح، وأن المجرات تتباعد عن بعضها بسرعة هائلة، وأنه كلما زادت المسافة بين المجرات، كلما زادت سرعة تباعدها عن بعضها، 

ويعلم الفلكيون اليوم، بعد إرسال الأقمار الصناعية التي تحمل تلسكوبات متقدمة جداً، أن عدد المجرات يقدر بالمليارات، وأن ما اكتشفه هابل صحيح تماماً، أكدته كل القياسات والحسابات، واكتشفوا بعده من حقائق الفضاء والكون ما أدهشهم، وما زالت اكتشافاتهم تتوالى بوتيرة سريعة حتى اليوم، وكان من نتائج هذه الاكتشافات، أنها كانت من أسباب ظهور تيار علمي جديد في الغرب، مناهض للمادية التي اتسمت بها الأوساط العلمية هناك منذ عصر النهضة، والتي تزعم أن الكون مصنوع من المادة، وأنه لا يوجد أي شيء غير مادي في الكون، ما ترتب عليه إنكار وجود خالق أنشأ الكون ويقوم على تدبيره.
 وقبل الحديث عن هذا التيار الجديد، دعونا أولاً نستعرض أولاً بعض تلك الاكتشافات التي كانت من أسباب ظهوره. 

تاريخ الكون رأي العين

عندما يدرس العلماء تاريخ الحضارات على الأرض أو تاريخ الأرض نفسها،  فعليهم أن ينقّـبوا عنه في باطن الأرض، وقد يجدون أدلة وقد لا يجدون، أما لدراسة تاريخ الكون أو الفضاء،  فإن كل ما عليهم أن يفعلوا، هو أن ينظروا بعيداً في الفضاء، على سبيل المثال، عندما تبصر التلسكوبات مجرة المرأة المسلسلة، أقرب المجرات إلى الأرض، فإنهم لا يرونها كما هي اليوم، بل يرونها أين كانت وكيف كانت قبل 250 مليون سنة، لأنها تبعد عن مجرتنا 250 مليون سنة ضوئية، وبعض التلسكوبات الحديثة فائقة القوة، يشاهد العلماء عبرها مجرات تبعد مليارات السنوات الضوئية.

الكون له بداية

إن أول ما استنتجه  العلماء من توسع الكون وتباعد المجرات، هو أن الكون له بداية، إذ لو كان الكون أزلياً، وكانت المجرات تتباعد منذ الأزل، فإن المسافات بينها ستكون لا نهائية، وهي ليست كذلك اليوم، فلا بد إذن أن لها بداية، وبتعبير مبسط آخر، لو تصورنا أننا نشاهد لدينا فيلما سينمائيا يصور تباعد المجرات، ثم قمنا بالضغط على زر إرجاع الفيلم إلى الوراء، عند ذلك سنشهد تقارب المجرات فيما بينها إلى أن تجتمع جميعاً في نقطة بدايتها، وهذه البداية  قدر العلماء الزمن الذي حدثت فيه أنه قبل 13.82 مليار سنة، وأطلقوا عليه اصطلاحاً اسم (الانفجار العظيم)، ونقول اصطلاحاً، لأن كلمة الانفجار توحي بالعشوائية وكأننا نتكلم عن تناثر شظايا قنبلة، ولكن هذه البداية كما أثبت العلم هي أبعد ما تكون عن حدث عشوائي، بل  كانت حدثاً في غاية الدقة والتنظيم، ولد معه الزمان والمكان وقوانين الفيزياء والكيمياء التي نعرفها اليوم، هي توسع محكم دقيق التنظيم، مضبوط بضوابط متناهية في الدقة، لو اختلف أو اختل أي منها لما كان هناك مجرات ولا نجوم ولا كواكب.

الكون يتوسع بدقة غاية في الانضباط:

من الضوابط الكونية الدقيقة، نسبة هذا التوسع الكوني الذي اكتشفه هابل، فقد توصل العلماء إلى أنه كان في بدايته منضبطاً إلى درجة يصعب تصورها، إذ تصل دقة هذا الضبط إلى 10 مرفوعة للقوة 60، ولو كان معدل توسع الكون أسرع مما هو عليه لتناثرت مكونات المادة في الفضاء بشكل يجعل من المستحيل أن تتمكن قوى الجاذبية لاحقا من جمع شتاتها وتشكيل المجرات بنجومها وكواكبها، ولو كان توسع الكون أبطأ، لانكمشت كل المادة الموجودة في الكون بفعل قوة الجاذبية على بعضها لتشكل ثقباً أسود هائلاً، ولما تشكلت المجرات.

اكتشاف الطاقة الداكنة:

 كانت مفاجأة كبيرة للعلماء عندما أثبتت حساباتهم الدقيقة، أن توسع الكون الذي كان يتباطأ بعد الانفجار العظيم، انتقل من التباطؤ إلى التسارع  قبل حوالي سبعة مليارات سنة من اليوم،  وشبهوا ذلك بكرة نقذفها عموديا في الهواء إلى الأعلى، فتتباطأ صعوداً بسبب الجاذبية، وقبل أن تبدأ بمعاودة الهبوط نحو الأرض، بسبب تخامد قوة القذف لتأثرها بالجاذبية، إذا بها تنطلق للأعلى من جديد، وكما أن الكرة تحتاج إلى قوة تسحبها للأعلى عكس الجاذبية، فإن توسع الكون يحتاج إلى قوة ما تؤثر عليه ليتسارع من جديد، بعد أن كان يتباطأ بسبب تخامد القوة التي اكتسبها عند الانفجار العظيم، فلا بد إذن من وجود قوة في الكون أدت إلى تسارع توسعه من بعد التباطؤ.
أطلق العلماء على هذه القوة اسم (الطاقة الداكنة)، وبعضهم يسميها (طاقة التنافر الكوني)، ورغم تأكد العلماء من وجود هذه الطاقة ومن تأثيرها، إلا أن تعريفها الدقيق وطبيعتها ما زالت من الألغاز التي يبحثون عن حل لها.
والأمر المذهل حولها هو الضبط الشديد لمقدارها، إذ توصلت حسابات العلماء الفيزيائية إلى أن قوة الطاقة الداكنة يجب أن تكون مضبوطة إلى دقة   مقدارها  10 مرفوعة للقوة 120، حتى يكون تشكل المجرات أمراً  ممكن الحدوث، وقد أدهشت هذه النسبة المذهلة عالم الفيزياء المعروف (بول ديفيس)  فكتب معلقاً عليها: (إن العبارة التي تقول “الكون منضبط بدقة كحد السكين” أقل بكثير من أن تعبر عن دقة الضبط الكوني).

جدير بالذكر أن العلماء الذين توصلوا لحساب تسارع التوسع الكوني بعد التباطؤ قد نالوا جائزة نوبل للفيزياء عام 2011.
 

الكون متوازن كهربائيا

 كلنا يعلم أن الذرات تتكون من بروتونات موجبة الشحنة، والكترونات سالبة الشحنة، ونيوترونات لا شحنة لها، ومن الضوابط المدهشة في كوننا المؤلف من مليارات المجرات، أنه متوازن كهربائيا بشكل مذهل، أي إن عدد الإلكترونات مساو تماما لعدد البروتونات في الكون كله، وهو أمر كان مفاجئاً تماماً للعلماء، لا سيما أن كتلة البروتون تزيد عن كتلة الإلكترون بمقدار 1836 ضعفاً، وطبيعة تكوينهما مختلفة، وهذا التوازن مضبوط بدقة شديدة فوق الخيال، بحيث لو افترضنا إضافة إلكترون واحد لكل تريليون تريليون تريليون من البروتونات،  (أي 10 مرفوعة للقوة 36) لاختل التوازن الكوني، ولما تكوّنت المجرات والنجوم والكواكب، ولكان الكون مجرد سُـحب غازية هائمة، وطبعا، لما كنا موجودين لنكتشف عظمة الكون ودقة ضوابطه.

 النجوم مصانع الكواكب

النظر في الكون البعيد هو النظر في الزمن السحيق، وهذا قد مكن العلماء من معرفة دورة حياة النجوم، وأن النجوم المتلألئة التي تزين سماءنا  قد نشأت من تكثف  سحب غازية هائلة قوامها في معظمه من غاز الهيدروجين، وهو الغاز الذي لم يكن غيره موجودا قبل تشكل النجوم والمجرات، مع نسبة بسيطة من غاز الهيليوم، وأن هذه النجوم هي مصانع عملاقة يتم في النواة الضخمة لكل منها صناعة عنصر الكربون، أساس الكائنات الحية، بالإضافة إلى كل المعادن المعروفة التي يتكون منها كوكبنا وغيره من الكواكب، عن طريق عمليات غاية في التعقيد والضبط، يضيق عن شرحها مقال في مجلة، لكن يكفي أن نعلم أن هذه العملية يساهم فيها عدد كبير من العوامل مجتمعة، لتحدث في قلب النجوم بواسطة سلسلة تفاعلات نووية يطلق عليها العلماء مصطلح (الاندماج النووي النجمي)، وهي تفاعلات غاية في الدقة والضبط والإحكام، بحيث لو اختل أي منها لما كان هناك كربون، وهو العنصر الأساسي في المواد العضوية المشكلة للخلايا الحية، ولا معادن ولا عناصر تتشكل منها الكواكب، لدرجة أن العالم فريد هولي، وهو الذي واكتشف معادلات هذه التفاعلات، يقول: (أعتقد أنه لا يمكن لأي عالم يتبع الدليل العلمي إلا أن يصل إلى نتيجة مفادها أن قوانين الفيزياء النووية قد تم تصميمها خصيصاً لتقوم بالدورالمناط بها في قلب النجوم) ويتم إطلاق  الكربون والمواد الأخرى الناتجة عن الاندماج النووي النجمي في الفضاء في نهاية حياة النجوم، لتساهم لاحقا في تكوين الكواكب، بواسطة الانفجارات النجمية المعروفة باسم (سوبرنوفا)

العلم يتجه للعودة إلى الخالق الحكيم

غير أن ما توصل العلم إليه من كشوف حديثة اعتبارا من النصف الثاني من القرن العشرين، وحى يومنا هذا، قد سار على عكس ما يشتهي الملحدون، الذين يزعمون ما ذكرناه آنفا هو نقطة من بحر الضوابط الكونية التي أدت كما مر في المقدمة إلى ظهور تيار علمي      مناهض للمادية، وكان ذلك في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وراح أصحابه يصدرون الكتب والأبحاث والدراسات والمقالات، التي يثبتون فيها بطرق علمية، واعتماداً على ما اكتشفه العلم، أن ما يوجد في الكون من ضوابط غاية في الدقة والتنظيم والتناغم فيما بينها،  يدل على تصميم مذهل في إحكامه ودقته، لا تخطؤه عين العالم المنصف، إلا أن أبحاثهم لم  تأخذ طريقها إلى المناهج التعليمية في الغرب، وواجه أصحابها معارضة شديدة في المؤسسات العلمية الغربية، وفي أوساط الإعلام العلمي هناك، مع أن أغلبهم كانوا يتجنبون تماماً الإشارة إلى وجود (مصمم) وراء هذا التصميم، لأن تلك المؤسسات تعتبر أن أي إشارة لتصميم لا بد أن تصل إلى وجود المصمم، وهو الخالق سبحانه، وأي ذكر لما وراء المادة هو – برأيهم –  أمر غير علمي.

ورغم هذه المعارضة، فقد استمر أصحاب التصميم الذكي بالسباحة عكس التيار، وإصدار كتبهم وأبحاثهم، بل وأصبحوا في السنوات الأخيرة،  يذكرون صراحة بأن الأدلة العلمية تدل على وجود الخالق، وأن الكلام عن وجود تصميم وراء الكون هو حديث في صميم العلم وليس أمرا فلسفيا أو عقائديا، ومن أحدث تلك الكتب، كتاب (العلوم الخفية: ما الذي لا يريدك بعض الملحدين أن تراه)، تأليف البروفيسور (إريك هيدين)، وقد صدر في شهر فبراير الماضي، يتحدث فيه مؤلفه، عن الضوابط المدهشة الموجودة في الكون، وعن محاربة الجامعات له لأنه كان يضمٍّن مقرراته الجامعية العلمية مناقشة طلابه في سؤال هام هو: على ماذا يدل التصميم المذهل لضوابط الكون؟  وآخر كتاب صدر في هذا الموضوع كان في شهر إبريل الماضي، وهو كتاب (عودة فرضية الإله: ثلاث اكتشافات علمية تدل على وجود مدبِّر وراء الكون)، للكاتب الشهير الدكتور ستيفن ماير، وهو صاحب أشهر كتابين في نقد نظرية دارون، هما كتاب (شك دارون)، وكتاب (التوقيع في الخلية)، وفي كلا الكتابين ذكر التصميم ولم يذكر المصمم، ولكنه في كتابه الأخير كسر هذا الحاجز وذكر الله تعالى على غلاف الكتاب،  وهو أمر نادر الحدوث من عالم  في بلاد الغرب،  بل قد تكون هذه هي المرة الأولى التي يصرح فيها عالم من وزن البروفيسور ماير على غلاف كتاب له أن العلم يؤدي للإيمان، قد قفز الكتاب فور صدوره ليصبح اكثر الكتب مبيعا على موقع أمازون، وخلاصة الكتاب أن هناك ثلاث حقائق علمية حديثة أصبحت اليوم مؤكدة، تدل بما لا يدع مجالاً للشك،  على وجود إله قادر حكيم وراء تصميم الكون ووجود الحياة على الأرض، وهذه الكشوف الثلاث هي: أن الكون له بداية، وأنه منضبط بضوابط مذهلة غاية في الدقة، وأن البرمجيات التي يحتويها الحمض النووي للخلايا الحية تحتوي على معلومات وبرمجيات لا يمكن أن يكون مصدرها مادياً أو عشوائياً،  ويترتب على  ذلك كله أن استنتاج وجود مصمم حكيم وراء هذا الكون، هو أمر علمي بحت، أي بعبارة أخرى نرددها نحن المؤمنين دائما: العلم يدعو للإيمان,

عسى أن تكون جهود العلماء المؤمنين بوجود الله، بداية لردم الهوة الموجودة بين العلم والإيمان، في الأوساط العلمية، وخاصة في أوروبا وأمريكا.

فداء ياسر الجندي