السوط البكتيري.. محرك البكتيريا الدوار المذهل

محرك؟ وفي البكتيريا؟ ذاك الكائن الذي لايُرى بالعين المجردة؟
نعم، يبدو الأمر مذهلاً وغير قابل للتصديق من الوهلة الأولى، ولكنه حقيقي، رآه العلماء بالمجاهر الإلكترونية ودرسوه وراقبوه واكتشفوا طريقة عمله، ووقفوا أمامه مشدوهين مندهشين لدقته وإحكامه وروعة تصميمه التي تضاهي تصميم المحركات التي توصل إليها البشر، فما هو السوط البكتيري العجيب؟ وكيف يعمل؟ ولماذ أدهش العلماء؟

السوط البكتيري.. ما هو وكيف يعمل

من المعلوم أن البكتيريا تتحرك سابحة في الوسط الذي تكون فيه، وهو وسط سائل، غير أن حركتها ليست عشوائية، بل تتحرك وفق نظام محكم، يقودها دائما نحو غذائها أو نحو بيئة معيشية مناسبة لها، وتحدث هذه الحركة بواسطة هذا المحرك العجيب.
عند النظر إلى البكتيريا بواسطة المجهر العادي، يمكن ملاحظة حركتها بوضوح، وملاحظة أن هذه الحركة تقوم بها شعيرات تبرز من جسم البكتيريا، وتعمل على تحريكها من مكان لآخر، وعندما نظر العلماء إلى تركيب هذه الشعيرات بالمجاهر الإلكترونية، وجدوا ما أدهشهم، فكل واحد من هذه الشعيرات هي محرك كامل الأركان، أطلقوا عليه اسم (السوط البكتيري).


الأسواط البكتيرية كما تبدو تحت المجهر العادي (وليس الإلكتروني)

وكلمة (محرك) تعبر تماماً عن السوط البكتيري، فهو محرك بكل ما في هذه الكلمة من معنى، محرك ميكانيكي وكهربائي، له مأخذ للطاقة، وفيه محاور وتروس وأقراص، وفيه ناقل حركة، يمكنه أن يعكس دوران السوط، فيكون باتجاه عقارب الساعة، أو بعكسها، وقاعدة المحرك مغروسة في غشاء البكتيريا، ويخرج منها السوط الدوار الذي يقوم مع غيره من الأسواط المغروسة في البكتيريا، بدفعها وتحريكها إلى حيث الغذاء أو البيئة الملائمة لها في الوسط الذي تعيش فيه. 

وقد توصل العلماء بعد جهد كبير إلى تمثيل هذا المحرك بصور متحركة، ليشرحوا ويبينوا روعته وجماله، والصور المرفقة أدناه تمثل أجزاء هذا السوط، وهذا رابط لمقطع قصير يشرح كيف يتحرك هذا السوط العجيب.

السوط البكتيري مغروس بغشاء البكتيريا

السوط البكتيري: نموذج أنشأه  العلماء بواسطة الذكاء الاصطناعي يبين اأجزاءه المختلفة، وكل لون يمثل مركبا كيميائيا أو بروتينا مختلفاً

السوط البكتري والمحركات البشرية

والعجيب في هذا المحرك، أنه يعمل بشكل يشبه إلى حد كبير المحرك الدوار الذي صنعه الإنسان، كما هو موجود في بعض محركات السيارات والقوارب، فالأجزاء والمكونات التي يعمل بها مألوفة تماماً لدى  للمهندسين البشريين، بما في ذلك الجزء الدوار، والجزء الثابت، ومحور الدوران، والمفصَّل على شكل حرف U، والمروحة، حتى إن أحد علماء الأحياء كتب يصفه: «إن السوط البكتيري هو أكثر المحركات الحيوية الخلوية شبها بالمحركات التي ابتكرها وصممها الإنسان”، وكان الأولى أن يقول: إن المحركات التي ابتكرها وصممها الإنسان تشبه المحرك الحيوي الموجود في بعض أنواع البكتيريا، وهو السوط البكتيري”.


ولابد عزيز القارئ أن يكون مصطلح (محرك حيوي) قد لفت نظرك، فهذا المحرك رغم أنه يقوم بالأدوار نفسها التي يقوم بها المحرك البشري، ولكنه (حيوي)، فهو ليس محركاً انفجاريا مثل محركات السفن والسيارات، ولا بخارياً مثل محركات القطارات القديمة، ولا نفاثاً مثل محركات الطائرات، فتلك المحركات تتركب من معادن وتروس وصواميل وبراغي وأسلاك ومفاتيح تشغيل  ونواقل حركة ومصادر طاقة، يقوم كل منها بالدور المطلوب منه لتعمل الحركة، أما قولنا (محرك حيوي)، فهو لأن الذي يقوم بالأدوار نفسها التي تقوم بها التروس والصواميل وغيرها من المكونات التي تتركب من مواد معدنية أو غيرها مما يستخدمه البشر في صنع محركاتهم، تلك الأدوار تقوم بها مركبات كيميائية معقدة، أغلبها بروتينات محددة ومتنوعة، يقوم كل منها بدوره المطلوب، وتتعاون مع بعضها بطريقة مذهلة مدهشة، لتشكل هذا المحرك الحيوي، الذي يعمل كما تعمل المحركات التي صنعها البشر، فتدور الأسواط البكتيرية في الاتجاه المناسب لتحريك البكتيريا إلى وجهتها المطلوبة، وكل لون في الأشكال التوضيحية أعلاه، يمثل أحد تلك البروتينات، أما تركيبها الكيميائي المعقد فليس مكان تفصيله في هذا المقال، بل في المقررات الجامعية لمادة الكيمياء الحيوية.

ماذا نقصد بقولنا (محرك حيوي)؟

تصل سرعة دوران السوط البكتيري إلى 1000 دورة في الدقيقة، وهذه السرعة تحتاج بالطبع إلى مصدر يزودها بالطاقة بشكل مستمر ما دام المحرك يدور، ومن أجل ذلك يستخدم المحرك القوة الدافعة للبروتونات والتي تولدها عملية الأيض في الخلية البكتيرية، ونحن هنا أيضاً أمام عملية كيميائية غاية في التعقيد، مكان تفصيلها ومعادلاتها في مقررات الكيمياء الحيوية الجامعية، والأمر العجيب حول الطاقة التي يستخدمها هذا المحرك، هو نسبة الطاقة المستخدمة إلى الطاقة المتوفرة، أو ما يعرف بفواقد الطاقة، فمن المعلوم أن جميع المحركات البشرية تفقد جزءً من الطاقة التي تستخدمها في الحركة، وغالباً ما يكون هذا الفقدان على شكل طاقة حرارية، لذلك نرى أن المحركات تسخن عند تشغيلها، وهي مزودة بآليات لتبريدها عندما تسخن، أما السوط البكتيري، ذاك المحرك الذي يعمل بالكيمياء الحيوية، فإن نسبة استخدامه للطاقة التي يحصل عليها تكاد تكون 100%، والفواقد منها لا تكاد تذكر.

السوط البكتيري مثال للتعقيد غير القابل للاختزال

وأخيراً هناك شيء آخر مميز في السوط البكتيري، وهو أنه مثال واضح جليّ لما يسميه علماء التصميم الذكي، “التعقيد غير القابل للاختزال”، وهو مفهوم طوره ونشره عالم الكيمياء الحيوية الشهير (مايكل بيهي  Michael Behe)، ويقصد به التعقيد الموجود في الأنظمة المكونة من عدة أجزاء متفاعلة مترابطة تساهم معاً في الوظيفة الأساسية للنظام، بحيث تؤدي إزالة أي جزء من الأجزاء المكونة للنظام، إلى أن يصبح النظام بلا فائدة ويتوقف تماماً عن العمل، ويعتبر العلماء الذين يتبنون نظرية التصميم الذكي،  وجود هذه الأنظمة بكثرة في خلايا الكائنات الحية، دليلا على وجود التصميم الذكي، لأن تطورها بآليات نظرية دارون، أي بالطفرات العشوائية والاصطفاء الطبيعي، أمر غير ممكن،  فالاصطفاء  الطبيعي يصطفي فقط العناصر التي تمنح ميزة وظيفية للكائن الحي، ويبقي عليها، في حين لا يحافظ على أي عنصر أو عضو أو ميزة لا تؤدي أي دور فعال، وبما أن كل جزء من أجزاء الأنظمة التي تتمتع بأنها معقدة تعقيدا غير قابل للاختزال، هو جزء عديم الفائدة، ما لم يكن عنصراً من عناصر النظام الكامل، فلن يحافظ الاصطفاء الطبيعي عليه،  ومن هنا فإن التعقيد غير القابل للاختزال هو نمط يعتبر علماء التصميم الذكي وجوده دليلاً قاطعاً على التصميم الذكي، ويؤكدون على أن  وجود مثل هذا التعقيد لا يمكن أن يوجد ما لم يكن ناتجاً عن تصميم ذكي محكم دقيق، لأن الأسباب والظروف الطبيعية لا يمكن أن ينتج عنها أي تصميم معقد غير قابل للاختزال. 

ومن الجدير بالذكر قبل الختام، أن نذكر أن هناك قناة علمية مشهورة جدا على اليوتيوب  اسمها Smarter every day وعدد المشتركين فيها يقترب من اثني عشر مليوناً، قد نشرت فيلماً رائعاً عن السوط البكتيري، (وهو باللغة الإنكليزية)، وكان عنوان الفيلم، “محرك الطبيعة الدوار المذهل (إنه كهربائي!)”. حقق في الأسبوع الأول من نشره أكثر من مليوني مشاهدة، يشرح فيه المهندس (ديستين ساندلين Destin Sandlin)،  كيف أصبح مفتونًا بعد مشاهدة رسوم متحركة عبر الإنترنت للسوط البكتيري. ويشير إلى أن السوط “موضوع كبير حقًا، ليس فقط في الميكانيكا الحيوية” ولكن أيضًا في “الفلسفة”. وذلك لأن “تعقيد السوط يعني أشياء كثيرة حول أصل الحياة ويثير أسئلة يناقشها الناس ويتحدثون عن كيف يمكن أن يكون هذا.”
نحن نعلم كيف يكون هذا يا عزيزي، إنه (صنعَ الله الذي أتقن كل شيء).

الكاتب: فداء ياسر الجندي