لم تكن مفاجأة لنا، أن يتساءل الكثير من قرائنا الأعزاء في تعليقهم على مقالنا السابق، (الثقوب السوداء.. حقائق وألغاز)، إن كانت هذه الثقوب هي (الخُّنَّس الجوار الكُنَّس) المذكورة في القرآن الكريم، ولا بد للإجابة من إلقاء ضوء على موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، كيف نثبته وما هي شروط تحققه، فنقول بعد الاتكال على الله:
الثقوب السوداء تستنفر المتسرعين
ما إن تظهر نظرية علمية جديدة، أو كشف علمي حديث، حتى نرى فئة من المتسرعين، يهرعون إلى كتاب الله تعالى، يبحثون بين آياته عن إشارة أو تلميح لتلك النظرية الجديدة، أو ذلك الكشف الحديث، فإذا ما عثروا على شيء من ذلك مهما كان بعيداً، ومهما كان معناه متمحلاً، هللوا وكبروا، وظنوا أنهم وضعوا أيديهم على كنز عظيم، ودليل ساطع جديد على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ثم راحوا ينشرون ما توصلوا إليه، فيلتقطه الناس ويتناقلونه، دون تثبت أو تأكد من مصدره وموثوقيته وعلميته، فإذا ما قيل لهؤلاء المتسرعين: “مهلاً يا قوم، ماهكذا تورد الإبل، القرآن الكريم ليس كتاب فيزياء ولا فلك، والنظريات العلمية لا نبحث عن إثباتها في كتاب الله، ولا نبحث عن إعجاز كتاب الله فيها”، يكون ردهم: “وهل تشككون في إلإعجاز العلمي للقرآن الكريم؟”، وجواب ذلك، أنه لا يختلف مسلمان على إعجاز كتاب الله، فهو المعجزة الخالدة التي تحدى الله سبحانه وتعالى الجن والإنس على أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يفعلوا ولن يفعلوا، والتحدي قائم حتى قيام الساعة، وإعجازه ليس في مجال العلوم فقط، بل في مجالات عديدة كثيرة تستعصي على الحصر، غير أنه ليس من الحكمة ولا المنطق أن يبحث كل من هب ودب في الإعجاز العلمي، لمجرد أنه سمع نظرية ذكرته بآية من كتاب الله، فإثبات الإعجاز له أصول وشروط لا بد من توفرها في القضية العلمية مدار البحث، فإن توفرت وثبت إعجاز جديد فبها ونعمت، وإلا فالأدلة القاطعة على إعجاز كتاب الله أكثر من أن تحصى، ولا نحتاج لأدلة جديدة لا سند علمي لها.
الإعجاز العلمي له شروط
وهذه الشروط ثلاثة، ينبغي تطبيقها بالتسلسل: الأول، أن يكون موضوع البحث حقيقة علمية ثابتة بشكل قطعي، وبأدلة علمية قاطعة لا يمكن نقضها، وليس نظرية علمية يختلف العلماء على صحتها ولا يوجد دليل علمي قاطع على ثبوتها، فإذا تحقق هذا الشرط،، انتقلنا للشرط الثاني، وهو أن تكون إشارة القرآن الكريم إلى موضوع البحث قطعية الدلالة، لا تأويل فيها ولاتمحل، ولا خروج عن معاني اللغة العربية التي تحتملها الألفاظ القرآنية، فإن تحقق هذان الشرطان الأساسيان، بحثنا عن شرط ثالث، وهو أن تكون تلك الحقيقة العلمية مما يستحيل على البشر الذين عاشوا في عصر نزول الوحي أن يتوصلوا إليها بالوسائل المعروفة في زمانهم.
أمثلة على الإعجاز العلمي اليقيني
والأمثلة خير توضيح لهذه الشروط، فمنها قوله تعالى في سورة آل عمران: “فمن ُيرِدِ اللهُ أن يَهْدِيهُ يَشرحْ صدرهُ للإسلام، ومن يُرِدْ أن يُضِلَّه يجعلْ صدرِهُ ضيِّقا حَرجاً كأنّما يَصَّعَّـد في السماء”.
هذه الآية الكريمة تشير بوضوح إلى حقيقة علمية ثابتة قاطعة، وهي أن الإنسان لو صعد في الفضاء بعيدا عن الأرض فسيشعر بضيق شديد في صدره، وألفاظ الآية واضحة قاطعة لا تقبل التأويل، تشير بوضوح حقيقة علمية من المستحيل على من عاش في عصر النبوة أن يدركها بالعلوم المعروفة والوسائل المتوفرة آنذاك، فلم يصعد أحد باتجاه السماء ليعلم أن ضغط الهواء ينخفض وأن هواء التنفس يقل بالتدريج مما يجعل صدره (ضيقاً حرجاً)، فنستطيع أن نقول باطمئنان ويقين إن في هذه الآية إعجاز علمي.
ومثال آخر أشد وضوحا، يقول سبحانه في سورة النور واصفاً أعمال الكفار: “أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ إذا أخرجَ يدهُ لم يَكَدْ يراها”، فهل يوجد ألفاظ أكثر وضوحا من هذه الآية تصف الظلام الدامس في الأعماق السحيقة للبحار والمحيطات؟ وتلك حقيقة علمية قاطعة، أثبتها العلم التجريبي بعد أن وصلت الغواصات لتلك الأعماق، والتي يستحيل على من عاش في عصر النبوة أن يصل إليها، فنستطيع أن نقول بثقة ويقين إن هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
وأمثلة الإعجاز العلمي كثيرة جدا، ألف فيها العلماء المختصون المؤهلون الكتب والمجلدات.
الثقوب السوداء: هل هي دليل إعجاز قرآني؟
ونعود إلى تساؤلات القراء حول ما إذ كانت الثقوب السوداء هي المقصودة بقوله تعالى في سورة التكوير: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس)، ونعرض هذا الأمر على الشروط المذكورة.
فإذا بحثنا عن الشرط الأول، نجد أن أن ما يجهله العلماء عن الثقوب السوداء أكثر مما يعرفونه، ومازالت الأبحاث حولها في بداياتها، ومازالت آراء العلماء مختلفة حول نشأة هذه الثقوب، وطريقة انضغاط المادة فيها، وعلاقتها بتطور المجرات والنجوم وماهيتها من الداخل، والمعلومات المتوفرة عنها يتم تحديثها باستمرار، ولا يستبعد أن يصل العلم يوما إلى حقائق عنها تقلب ما يعرفونه عنها رأسا على عقب، لذلك لا نبحث عن إشارات لها في القرآن الكريم قبل أن تصبح معلومات العلماء عنها يقينية ترقى لدرجة الحقائق العلمية.
إن عدم توفر الشرط الأول، يغنينا عن البحث في الشرط الثاني، وهو أيضاً غير متحقق، وذلك لأن ألفاظ (الخنس الجوار الكنس) ليست قطعية قي دلالتها على الثقوب السوداء، فكلمة (الخُنَّس)، مشتقة من فعل (خَنَس)، ومعناها في اللغة كما جاء في القاموس المحيط: “خنس خنوساً: تأخِّر، والخُنَّس، الكواكب كلها، أو السيارة منها، أو النجوم، وخنوسها أنها تغيب”، وكلمة (الجوار)، تنطبق على كل جرم سماوي جار في السماء، فجميع الكواكب والنجوم تتحرك كما نعلم، وكلمة (كُنَّس) مشتقة من فعل (كَنَس)، ونجد في لسان العرب: “كنَسَتِ الظِّباء والبقر تَكْنِسُ بالكسر وتَكَنَّسَتْ واكْتَنَسَتْ دخلت في الكِناس، هو موضع في الشجر يَكْتَنُّ فيه ويستتر وظِباء كُنَّسٌ، وكَنَسَتِ النجوم تَكْنِسُ كُنُوساً استمرَّت في مَجاريها ثم انصرفت راجعة وفي التنزيل فلا “أُقْسِمُ بالخُنْسِ الجَوارِ الكُنَّسِ” الكُنَّسُ النجوم تطلع جارية وكُنُوسُها أَن تغيب في مغاربها التي تغِيب فيها”.
وهكذا نجد أن المعنى اللغوي لألفاظ الآية الكريمة لا يفيدنا بشكل قاطع بأنها تشير إلى الثقوب السوداء، كما راينا في قوله تعالى (يصعَّد في السماء)، أو في قوله تعالى (بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب)، فتلك ألفاظ قطعية الدلالة تدل على ظواهر قطعية الثبوت، في حين أن قوله تعالى (الخنس الجوار الكنس) دلالته على الثقوب السوداء ظنية لا قطع فيها، على الثقوب السوداء، والتي هي بدورها ما زالت في طور الظن والاكتشاف والبحث والتحقيق.
لا حاجة لتمحل الإعجاز في غير مواضعه
قرآننا يا سادة معجز، وإعجازه العلمي قد ثبت في عدد كبير جداً من الظواهر قطعية الثبوت، وبالفاظ قطعية الدلالة، فلا حاجة بنا لنزيد عليها ما لم يثبت، فنجعل بذلك حجة لكل مغرض، بأن يتهمنا بالجهل والتسرع، أو أن يشكك في إعجاز كتاب الله الكريم، معجزة الله الباقية مادامت السموات والأرض.
_________________________________
الكاتب: فداء ياسر الجندي



